الرحمة .. خلق إسلامي
صفحة 1 من اصل 1
الرحمة .. خلق إسلامي
الرحمة
خلق إسلامي
الرحمة من الأخلاق والمبادئ الأساسية في الإسلام،
وهي رقةٌ في القلب وحساسية في الضمير، وإرهافٌ في الشعور،
تستهدف الرأفة بالآخرين، والتألم لهم، والعطف عليهم، وكفكفة دموع أحزانهم وآلامهم..
وهي التي تهيب المؤمن أن ينفرَ من الإيذاء وينبو عن الجريمة، ويصبح مصدرَ خيرٍ وبر وسلام للناس أجمعين .
والرحمة في أفقها الأعلى، وامتدادها المطلق صنعة المولى تباركت أسماؤه،
فإن رحمتَه شملت الوجود، وعمَّت الملكوت، فحينما أشرق شعاع من علمه المحيط بكل شيءٍ أشرق معه شعاع للرحمة الغامرة .
ولقد جاء لفظ "رحم" ومشتقاته ثلاثمائة مرة في القرآن الكريم؛
الأمر الذي يدل على اتساع المساحة التي تشغلها الرحمة في الحياة الدينية والإنسانية.
ولذلك كان من صلاة الملائكة لله عز وجل:
﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)﴾
(غافر).
ولعظم الرحمة وأهميتها، وصف الله تعالى بها نفسه،
مرة باسم الرحمن، ومرة باسم الرحيم،
فهو رحمن الدنيا، رحمة تعم المؤمن والكافر،
ورحيم الآخرة؛ حيث تخص رحمته المؤمنين وحدهم:
﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾
(الأحزاب: من الآية 43).
وقال تعالى:
﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ ﴾
(النساء: من الآية 175).
وقال عز وجل:
﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾
(الأعراف: من الآية 56)
وكثير من أسماء الله الحسنى ينبع من معاني الرحمة والكرم والفضل والعفو،
وقد جاء في الحديث القدسي:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
" لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ بِيَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ : إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي"
رواه مسلم
أي أن تجاوزه عن خطايا البشر يسبق اقتصاصه منهم، وسخطه عليهم، وبذلك كان الله عز وجل أفضل الرحماء:
﴿ وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)﴾
(المؤمنون)،
فالله تعالى هو أرحم بخلقه من غيره،
إذ إنه هو الذي خلقهم، فهو أرحم بهم من أمهاتهم اللائي ولدنهم.
ورحمة الله تسع كل الخلائق،
والذين يتقون الله- عز وجل- ينالهم النصيب الأكبر من رحمة الله، يقول تعالى:
﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾
(الأعراف: من الآية 156).
ونستطيع أن ندرك أن الرحمة في لغة الكتاب العزيز هي:
كشف الضر أو العذاب عن الناس، أو تخفيفه عنهم، أو تجنيبهم إياه،
يقول عز وجل:
﴿ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا ﴾
(يونس: من الآية 21)،
ويقول تبارك وتعالى:
﴿ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ﴾
(الإسراء: من الآية 54).
وقد جعل الله تعالى الرحمةَ صفةً أصيلةً في الرسول- صلى الله عليه وسلم- فقال تعالى:
﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128)﴾
(التوبة)،
ويقول تعالى:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ﴾
(آل عمران: من الآية 159)،
بل إن الله تعالى أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم، وجعله رحمةً لكل البشر، فقال تعالى:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)﴾
(الأنبياء).
يقول الشيخ الغزالي:
"لقد أرادَ الله أن يمتن على العالم برجل يمسح آلامه، ويخفف أحزانه، ويرثي لخطاياه، ويستميت في هدايته، ويأخذ ويناصر الضعيف،
ويقاتل دونه قتال الأم عن صغارها، ويخضد شوكة القوى حتى يرده إنسانًا سليم الفطرة، لا يضرى ولا يطغى..
فأرسل محمدًا عليه الصلاة والسلام، وسكن في قلبه من العلم والحلم، وفي خلقه من الإيناس والبر،
وفي طبعه من السهولة والرفق، وفي يده من السخاوة والندى ما جعله أزكى عباد الله رحمة وأوسعهم عاطفة، وأرحبهم صدرًا"
(خلق المسلم)
والرحمة مبادرة إنسانية نبيلة تبرهن على سلامة حسنا الخلقي وحدته، وعلى نضج إنسانيتنا، وتوطد مشاعر الإخاء الإنساني في ضمائرنا.
الرحمة هي التعبير الخلقي العملي عن تعاطف الإنسان مع أخيه الإنسان حين يواجه المرض أو الألم،
أو حين يقع في المآزق والملمات دون أن يجد الحيلة للفكاك منها،
والإنسان الرحيم يبادر إلى هذا أو ذاك تحدوه الرغبة في كشف العذاب عنه أو تخفيفه عن كاهله .
الفضائل الخلقية في الإسلام
رحمة التشريع الإسلامي:
من رحمة الله تعالى بعباده أن شرع لهم ما يرفع عنهم الحرج، ويجلب لهم المصلحة، يقول الله- عز وجل-:
﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)﴾
(النحل)،
فالرحمة في اتباع كتاب الله، بتحليل حلاله، وتحريم حرامه، والبشرى في تحقيق معنى الإسلام، ويقول تعالى:
﴿ وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾
(الإسراء: من الآية 82).
ففي منهج القرآن رحمة من أمراض القلب التي تجعل حياة الإنسان عذابًا، بما فيه من نار الحقد، والحسد، والقلق، والحيرة، والشك، وعبودية الهوى،
وفي منهج القرآن رحمة من أمراض النفس التي تجعل حياة الإنسان جحيمًا،
وفي منهج القرآن الرحمة من انحراف العقل وشروره،
وفي منهج القرآن الرحمة لأعضاء الجسد بكفها عما هو من شأنه أن يصيبها بالضرر،
وفي منهج القرآن الرحمة بتشريعاته التي ترفع الحرج والمشقة والعنت عن الناس، وتجعل المصلحة العامة مقصدًا من مقاصده؛
وفي منهج القرآن الرحمة من العلل الاجتماعية التي تفتك بالمجتمع وتفقده أمنه وطمأنينته
(أخلاق الإسلام وأخلاق دعاته)
وفي الحديث عن نفي الحرج والمشقة يقول تعالى:
﴿طه (1)مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)﴾
(طه)،
وإذا تطرقنا إلى المجالات المختلفة للتشريع الإسلامي نجد أنها تتسم بالرحمة ورفع الحرج:
أولاً: في مجال العبادات:
يقول الله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾
(الحج).
يقول ابن كثير- رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:
﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾
(الحج: من الآية 78)،
أي: ما كلفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيءٍ يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجًا ومخرجًا،
فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعًا،
وفي السفر تقصر إلى اثنين، وفي الخوف تصلى رجالاً (مشاة) وركبانًا، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.
والقيام فيها يسقط لعذر المرض فيصليها المريض جالسًا، فإن لم يستطع فعلى جنبه،
إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات.
ومن رحمة الله تعالى في تشريع العبادات، أن رخَّص في التيمم عند فقدان الماء أو العجز عن استخدامه، يقول تعالى:
﴿ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾
(المائدة: من الآية 6).
ومن التيسير في تشريع العبادات :
= أن رخَّص الله للمسافر في الجمع بين الصلاتين تقديمًا وتأخيرًا، وما جعل ذلك إلا تيسيرًا،
= كما رخَّص الله للمسافرين في الفطر- في رمضان- فقال تعالى:
﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾
(البقرة: من الآية 184)
= ومن رحمة الله- أيضًا- في تشريع العبادات أن أسقط فريضتي الزكاة والحج عن غير القادرين عليها.
ثانيًا: في التشريع الاقتصادي:
فقد حرَّم الإسلام كل ما من شأنه يُوجد الشقاق والمشقة بين المسلمين،
وأمر بكل ما من شأنه أن ينشر فيهم التراحم، فيقول الله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)﴾
(آل عمران).
فقد حَّرم الله الربا رحمة بالأمة؛ لأنه يقوم على امتصاص الأغنياء لدماء الفقراء،
ومن رحمة الله بالمجتمع أن شرع حد السرقة، وحد الحرابة (قطع الطريق) حماية للأمة من اعتداء القلة المنحرفة،
ففي حدِّ السرقة يقول تعالى:
﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)﴾
(المائدة).
وفي حدِّ الحرابة يقول الله تعالى:
﴿ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)﴾
(المائدة).
وفي هذا التشريع ردع للفئة المنحرفة، وضرب على يد المفسدين،
وذلك رحمة بالمجتمع كله.
أما دعوى أن هذه العقوبات تتنافي مع حقوق الإنسان، ومع الأسلوب الحضاري:
فهي دعوى للتضحية بالمجتمع من أجل فئة قليلة منحرفة،
فهل من الرحمة إخافة المارة؟! وتهديد أمنهم؟! وسلب أموالهم؟! وهتك أعراضهم؟! وسفك دمائهم؟!.
ثالثًا: في التشريع الاجتماعي :
شرع الله الحدود والقصاص صيانةً للمجتمع، ورحمةً به من عبث المفسدين.
ففي حفظ الأعراض في المجتمع يقول الله تعالى:
﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر ﴾
(النور: من الآية 2).
وفي حفظ الأعراض من إلصاق التهم بها، قال تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)﴾
(النور).
وفي هذا التشريع ردعٌ لأولئك الذين ينتهكون أعراض الناس بالاعتداء عليها، أو بإلصاق التهم بها،
وفي هذا رحمة للأعراض من أن تنهشها ذئاب البشر.
وفي حفظ الأنفس والدماء أوجب الله القصاص؛ حماية للمجتمع وصيانة له،
ومع ذلك رغَّب في العفو والتسامح، يقول تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) ﴾
(البقرة).
فما جعل الله القصاص إلا رحمة للمجتمع من نار الثأر، وما فيه من ظلم لغير الجاني، ومن إشاعة الفوضى في المجتمع؛ حيث يفقد المجتمع أمنه واستقراره
(أخلاق الإسلام وأخلاق دعاته).
خلق إسلامي
الرحمة من الأخلاق والمبادئ الأساسية في الإسلام،
وهي رقةٌ في القلب وحساسية في الضمير، وإرهافٌ في الشعور،
تستهدف الرأفة بالآخرين، والتألم لهم، والعطف عليهم، وكفكفة دموع أحزانهم وآلامهم..
وهي التي تهيب المؤمن أن ينفرَ من الإيذاء وينبو عن الجريمة، ويصبح مصدرَ خيرٍ وبر وسلام للناس أجمعين .
والرحمة في أفقها الأعلى، وامتدادها المطلق صنعة المولى تباركت أسماؤه،
فإن رحمتَه شملت الوجود، وعمَّت الملكوت، فحينما أشرق شعاع من علمه المحيط بكل شيءٍ أشرق معه شعاع للرحمة الغامرة .
ولقد جاء لفظ "رحم" ومشتقاته ثلاثمائة مرة في القرآن الكريم؛
الأمر الذي يدل على اتساع المساحة التي تشغلها الرحمة في الحياة الدينية والإنسانية.
ولذلك كان من صلاة الملائكة لله عز وجل:
﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)﴾
(غافر).
ولعظم الرحمة وأهميتها، وصف الله تعالى بها نفسه،
مرة باسم الرحمن، ومرة باسم الرحيم،
فهو رحمن الدنيا، رحمة تعم المؤمن والكافر،
ورحيم الآخرة؛ حيث تخص رحمته المؤمنين وحدهم:
﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾
(الأحزاب: من الآية 43).
وقال تعالى:
﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ ﴾
(النساء: من الآية 175).
وقال عز وجل:
﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾
(الأعراف: من الآية 56)
وكثير من أسماء الله الحسنى ينبع من معاني الرحمة والكرم والفضل والعفو،
وقد جاء في الحديث القدسي:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
" لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ بِيَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ : إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي"
رواه مسلم
أي أن تجاوزه عن خطايا البشر يسبق اقتصاصه منهم، وسخطه عليهم، وبذلك كان الله عز وجل أفضل الرحماء:
﴿ وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)﴾
(المؤمنون)،
فالله تعالى هو أرحم بخلقه من غيره،
إذ إنه هو الذي خلقهم، فهو أرحم بهم من أمهاتهم اللائي ولدنهم.
ورحمة الله تسع كل الخلائق،
والذين يتقون الله- عز وجل- ينالهم النصيب الأكبر من رحمة الله، يقول تعالى:
﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾
(الأعراف: من الآية 156).
ونستطيع أن ندرك أن الرحمة في لغة الكتاب العزيز هي:
كشف الضر أو العذاب عن الناس، أو تخفيفه عنهم، أو تجنيبهم إياه،
يقول عز وجل:
﴿ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا ﴾
(يونس: من الآية 21)،
ويقول تبارك وتعالى:
﴿ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ﴾
(الإسراء: من الآية 54).
وقد جعل الله تعالى الرحمةَ صفةً أصيلةً في الرسول- صلى الله عليه وسلم- فقال تعالى:
﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128)﴾
(التوبة)،
ويقول تعالى:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ﴾
(آل عمران: من الآية 159)،
بل إن الله تعالى أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم، وجعله رحمةً لكل البشر، فقال تعالى:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)﴾
(الأنبياء).
يقول الشيخ الغزالي:
"لقد أرادَ الله أن يمتن على العالم برجل يمسح آلامه، ويخفف أحزانه، ويرثي لخطاياه، ويستميت في هدايته، ويأخذ ويناصر الضعيف،
ويقاتل دونه قتال الأم عن صغارها، ويخضد شوكة القوى حتى يرده إنسانًا سليم الفطرة، لا يضرى ولا يطغى..
فأرسل محمدًا عليه الصلاة والسلام، وسكن في قلبه من العلم والحلم، وفي خلقه من الإيناس والبر،
وفي طبعه من السهولة والرفق، وفي يده من السخاوة والندى ما جعله أزكى عباد الله رحمة وأوسعهم عاطفة، وأرحبهم صدرًا"
(خلق المسلم)
والرحمة مبادرة إنسانية نبيلة تبرهن على سلامة حسنا الخلقي وحدته، وعلى نضج إنسانيتنا، وتوطد مشاعر الإخاء الإنساني في ضمائرنا.
الرحمة هي التعبير الخلقي العملي عن تعاطف الإنسان مع أخيه الإنسان حين يواجه المرض أو الألم،
أو حين يقع في المآزق والملمات دون أن يجد الحيلة للفكاك منها،
والإنسان الرحيم يبادر إلى هذا أو ذاك تحدوه الرغبة في كشف العذاب عنه أو تخفيفه عن كاهله .
الفضائل الخلقية في الإسلام
رحمة التشريع الإسلامي:
من رحمة الله تعالى بعباده أن شرع لهم ما يرفع عنهم الحرج، ويجلب لهم المصلحة، يقول الله- عز وجل-:
﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)﴾
(النحل)،
فالرحمة في اتباع كتاب الله، بتحليل حلاله، وتحريم حرامه، والبشرى في تحقيق معنى الإسلام، ويقول تعالى:
﴿ وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾
(الإسراء: من الآية 82).
ففي منهج القرآن رحمة من أمراض القلب التي تجعل حياة الإنسان عذابًا، بما فيه من نار الحقد، والحسد، والقلق، والحيرة، والشك، وعبودية الهوى،
وفي منهج القرآن رحمة من أمراض النفس التي تجعل حياة الإنسان جحيمًا،
وفي منهج القرآن الرحمة من انحراف العقل وشروره،
وفي منهج القرآن الرحمة لأعضاء الجسد بكفها عما هو من شأنه أن يصيبها بالضرر،
وفي منهج القرآن الرحمة بتشريعاته التي ترفع الحرج والمشقة والعنت عن الناس، وتجعل المصلحة العامة مقصدًا من مقاصده؛
وفي منهج القرآن الرحمة من العلل الاجتماعية التي تفتك بالمجتمع وتفقده أمنه وطمأنينته
(أخلاق الإسلام وأخلاق دعاته)
وفي الحديث عن نفي الحرج والمشقة يقول تعالى:
﴿طه (1)مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)﴾
(طه)،
وإذا تطرقنا إلى المجالات المختلفة للتشريع الإسلامي نجد أنها تتسم بالرحمة ورفع الحرج:
أولاً: في مجال العبادات:
يقول الله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾
(الحج).
يقول ابن كثير- رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:
﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾
(الحج: من الآية 78)،
أي: ما كلفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيءٍ يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجًا ومخرجًا،
فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعًا،
وفي السفر تقصر إلى اثنين، وفي الخوف تصلى رجالاً (مشاة) وركبانًا، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.
والقيام فيها يسقط لعذر المرض فيصليها المريض جالسًا، فإن لم يستطع فعلى جنبه،
إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات.
ومن رحمة الله تعالى في تشريع العبادات، أن رخَّص في التيمم عند فقدان الماء أو العجز عن استخدامه، يقول تعالى:
﴿ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾
(المائدة: من الآية 6).
ومن التيسير في تشريع العبادات :
= أن رخَّص الله للمسافر في الجمع بين الصلاتين تقديمًا وتأخيرًا، وما جعل ذلك إلا تيسيرًا،
= كما رخَّص الله للمسافرين في الفطر- في رمضان- فقال تعالى:
﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾
(البقرة: من الآية 184)
= ومن رحمة الله- أيضًا- في تشريع العبادات أن أسقط فريضتي الزكاة والحج عن غير القادرين عليها.
ثانيًا: في التشريع الاقتصادي:
فقد حرَّم الإسلام كل ما من شأنه يُوجد الشقاق والمشقة بين المسلمين،
وأمر بكل ما من شأنه أن ينشر فيهم التراحم، فيقول الله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)﴾
(آل عمران).
فقد حَّرم الله الربا رحمة بالأمة؛ لأنه يقوم على امتصاص الأغنياء لدماء الفقراء،
ومن رحمة الله بالمجتمع أن شرع حد السرقة، وحد الحرابة (قطع الطريق) حماية للأمة من اعتداء القلة المنحرفة،
ففي حدِّ السرقة يقول تعالى:
﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)﴾
(المائدة).
وفي حدِّ الحرابة يقول الله تعالى:
﴿ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)﴾
(المائدة).
وفي هذا التشريع ردع للفئة المنحرفة، وضرب على يد المفسدين،
وذلك رحمة بالمجتمع كله.
أما دعوى أن هذه العقوبات تتنافي مع حقوق الإنسان، ومع الأسلوب الحضاري:
فهي دعوى للتضحية بالمجتمع من أجل فئة قليلة منحرفة،
فهل من الرحمة إخافة المارة؟! وتهديد أمنهم؟! وسلب أموالهم؟! وهتك أعراضهم؟! وسفك دمائهم؟!.
ثالثًا: في التشريع الاجتماعي :
شرع الله الحدود والقصاص صيانةً للمجتمع، ورحمةً به من عبث المفسدين.
ففي حفظ الأعراض في المجتمع يقول الله تعالى:
﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر ﴾
(النور: من الآية 2).
وفي حفظ الأعراض من إلصاق التهم بها، قال تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)﴾
(النور).
وفي هذا التشريع ردعٌ لأولئك الذين ينتهكون أعراض الناس بالاعتداء عليها، أو بإلصاق التهم بها،
وفي هذا رحمة للأعراض من أن تنهشها ذئاب البشر.
وفي حفظ الأنفس والدماء أوجب الله القصاص؛ حماية للمجتمع وصيانة له،
ومع ذلك رغَّب في العفو والتسامح، يقول تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) ﴾
(البقرة).
فما جعل الله القصاص إلا رحمة للمجتمع من نار الثأر، وما فيه من ظلم لغير الجاني، ومن إشاعة الفوضى في المجتمع؛ حيث يفقد المجتمع أمنه واستقراره
(أخلاق الإسلام وأخلاق دعاته).
(Ć. Ŗ Ŏ ή a Ļ đ o )- عدد المساهمات : 808
السمعة : 0
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى